كتاب الروائح الزكيّة في مولد خير البرية

فَصْلٌ في الاحْتِفَالِ بِالـمَوْلِدِ الشَّريفِ، وَذِكْرِ أَدِلَّةِ جَوَازِهِ

مِنَ البِدَعِ الحسَنَةِ الاحْتِفَالُ بِـمَوْلِدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهَذَا العَمَلُ لَـمْ يَكُنْ في عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلا فِيمَا يَلِيهِ إِنَّـمَا أُحْدِثَ في أَوَائِلِ القَرْنِ السَّابِعِ لِلْهِجْرَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَهُ مَلِكُ إِرْبِلَ وَكَانَ عَالِـمًا تَقِيًّا شُجَاعًا يُقَالُ لَهُ الـمُظَفَّرُ. وَكانَ لَهُ ءاثَارٌ حَسَنَةٌ وَكانَ يُطْعِمُ ءالافًا مِنَ النَّاسِ وَيُهْدِي الـهَدَايا وَالعَطَايا وَيَفُكُّ الأَسْرَى حُبًّا بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. جَـمَعَ لِـهَذَا كَثيرًا مِنَ العُلَماءِ فِيهِمْ مِنْ أَهْلِ الحَدِيثِ وَالصُّوفِيَّةِ الصَّادِقينَ.


وَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَ فِعْلَ ذَلِكَ صاحِبُ إِرْبِل الـمَلِكُ الـمُظَفَّرُ أَبو سَعيدٍ كُوكَبْـرِي3 بنُ زينِ الدِّينِ عَلِيِّ بنِ بَكْتَكِين4 أَحَدُ الـمُلوكِ الأَمْجادِ وَالكُبَـرَاءِ الأَجْوَاد، وَكانَ لَهُ ءاثارٌ حَسَنَةٌ، وَهُوَ الَّذِي عَمَّرَ الجامِعَ الـمُظَفَّرِيَّ بِسَفْحِ قَاسْيُون" اهـ. وَقَدْ ثَبَتَ في الصَّحِيحَينِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ الـمَدينَةَ فَوَجَدَ اليَهودَ يَصُومُونَ يَوْمَ عاشوراءَ فَسَأَلَـهُمْ فَقَالوا: هُوَ يَوْمٌ أَغْرَقَ اللهُ فِيهِ فِرْعَوْنَ وَنَـجَّى مُوسَى فَنَحْنُ نَصُومُهُ شُكْرًا للهِ تَعَالَى فَقالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نَحْنُ أَوْلَـى بِـمُوسَى مِنْكُمْ" فَيُسْتَفادُ مِنْهُ فِعْلُ الشُّكْرِ للهِ عَلَى ما مَنَّ بِهِ في يَوْمٍ مُعَيَّنٍ مِنْ إِسْدَاءِ نِعْمَةٍ أَوْ دَفْعِ نِقْمَةٍ وَيُعَادُ ذَلِكَ في نَظِيرِ ذَلِكَ اليَوْمِ مِنْ كُلِّ سَنَةٍ.
وَالشُّكْرُ للهِ يَحْصُلُ بِأَنْوَاعِ العِبادَةِ كَالسُّجودِ وَالصِّيامِ وَالصَّدَقَةِ وَالتِّلاوَةِ وَأَيُّ نِعْمَةٍ أَعْظَمُ مِنْ بُرُوزِ هَذَا النَّبِيِّ نَبيِّ الرَّحْمَةِ في ذَلِكَ اليَوْمِ وَقَدْ قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَنْ سُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ: "ذاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ وَأُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ". هَذَا الحَدِيثُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الـمَوْلِدَ حَقٌّ وَمَعْنَاهُ هَذَا اليَوْمُ يَسْتَحِقُّ الإكْرَامَ يَسْتَحِقُّ التَّعْظِيمَ، وَمِنْ جُمْلَةِ التَّعْظيمِ عَمَلُ الـمَوْلِدِ لِإِظْهَارِ الشُّكْرِ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ في مِثْلِ هَذَا الشَّهْرِ.


3- كذا المشهور في ضبطه في كتب التاريخ والتراجم وقد ضبطه ابن خلكان في "وفيات الأعيان" (121/4) : "كُوكُبُوري"، بضم الكافَيْنِ بينهما واو ساكنة ثم باء موحدة مضمومة ثم واو ساكنة وبعدها راء، ثم قال : وهو اسم تركي معناه بالعربي "ذئب أزرق".