كتاب الروائح الزكيّة في مولد خير البرية

فَصْلٌ فِي بَيانِ نُبْذَةٍ مِنْ صِفاتِهِ الكَريـمَةِ وَشَـمائِلِهِ الشَّريفَةِ، وَأَخْلاقِهِ الطّاهِرَةِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 2

وَرَدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَديثِ أَنَسِ بْنِ مالِكٍ أَنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا. هَذِهِ الكَلِمَةُ لَمْ تَصْدُرْ مِنْ قَوْلٍ عَابِرٍ رَءَاهُ مَرَّةً أَوْ لَحْظَةً فَأُعْجِبَ، وَإِنَّـمَا قَالَـهَا مَنْ عايَشَهُ وَخَدَمَهُ، والْعادَةُ أَنَّ الخادِمَ وَمَنْ يَحْتَفُّ بِالإِنْسَانِ مِـمَّنْ لَا شَأْنَ لَهُ أَنَّهُ يَرَى أَخْلاقَهُ عَلَى الحَقيقَةِ، النَّاسُ البُعَداءُ قَدْ يَرَوْنَهُ يَوْمًا فِي لَحْظَةِ غَضَبٍ فَيَحْكُمُونَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ دَائِمًا، أَوْ يَرَوْنَهُ فِي لَحْظَةِ انْبِساطٍ أَوْ مُجامَلَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ وَيَحكُمُونَ عَلَيْهِ بِـهَذَا دَائِمًا، وَلَكِنِ الَّذِي يَعْرِفُهُ هُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَحْتَفُّونَ بِهِ فِي أَحْوَالِهِ كُلِّها، كَالخادِمِ وَالزَّوْجَةِ وَنَحْوِ هَذَا، وَالخادِمُ أَعْظَمُ؛ لِأَنَّ الخادِمَ بِالْعَادَةِ لَا يُؤْبَهُ بِهِ، كَيْفَ إِذَا كَانَ صَغِيرًا، أَنَسٌ خَدَمَ النَّبيَّ وَلَهُ عَشْرُ سِنِينَ. فَيَقُولُ: "كَانَ رَسولُ اللهِ أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا". كَانَ اجْتَمَعَ فِيه شَتاتُ الفَضائِلِ فَتَحَلَّى بِأَحْسَنِ الشَّمائِلِ.


وَإِلَى جانِبِ هَذِهِ الصِّفاتِ الحَميدَةِ كَانَ شَدِيدًا فِي أَمْرِ اللهِ، شُجَاعًا، فَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ6 بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَليِّ بْنِ أَبِي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: "لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ اتَّقَيْنا الـمُشْرِكِينَ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ أَشَدَّ النَّاسِ بَأْسًا". فَالأَنْبياءُ هُمْ أَشْجَعُ خَلْقِ اللهِ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الصَّحابَةِ: "كُنَّا إِذَا حَمِيَ الوَطِيسُ فِي الـمَعْرَكَةِ نَحْتَمي بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، فَقَدْ أَعْطَى اللهُ نَبيَّنا قوَّةَ أَرْبَعِينَ رَجُلًا مِنَ الأَشِدَّاءِ.
أَمَّا أَخْبارُ كَرَمِهِ وَسَخَائِهِ فَعَديدَةٌ مِنْهَا مَا رَوَاه مُسْلِمٌ7 عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: "مَا سُئِلَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الإِسْلامِ شَيْئًا قَطُّ إِلَّا أَعْطَاهُ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَسَأَلَهُ، فَأَمَرَ لَهُ بِغَنَمٍ بَيْنَ جَبَلَيْنِ، فَأَتَى قَوْمَهُ فَقَالَ: أَسْلِمُوا، فَإِنَّ مُحَمَّدًا يُعْطِي عَطاءَ مَنْ لَا يَخافُ الفاقَةَ". فِي هَذَا الحَديثِ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "فَأَمَرَ لَهُ بِغَنَمٍ بَيْنَ جَبَلَيْنِ" يَعْنِي غَنَمًا تَـمْلَأُ مَا بَيْنَهُمَا أَيْ غَنَمًا كَثيرَةً؛ فَأَتَى قَوْمَهُ مُتَعَجِّبًا مِنْ كَرَمِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَلَبَ مِنْهُمْ أَنْ يُسْلِموا؛ ثُمَّ أَخْبَـرَهُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا يُعْطي عَطاءً عَظِيمًا مَا يَخافُ الفَقْرَ مَعَهُ.


6- أخرجه أحمد في مسنده (86/1).
7- أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الفضائل: باب ما سئل رسول الله شيئًا قط فقال: لا، وأخرجه أحمد في مسنده (175،108/3)،