عقيدة المسلم

"قال الله تعالى: فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴿١١﴾ سورة الشورى

عقيدة المسلم



القول في القدر

وَقَد عَلِمَ اللهُ تَعالى فِيما لَم يَزَلْ أي بعلمه الأزلي عَدَدَ مَنْ يَدْخُلُ الجَنَّةَ وَعَدَدَ مَنْ يَدخُلُ النارَ جُمْلَةً وَاحِدَةً، وهذا فيه بيانُ إحاطةِ عِلْمِ اللهِ بِمَنْ يَدخلُ الجنةَ تفصيلاً ومَنْ يدخلُ النارَ تفصيلاً، فَلا يُزادُ في ذلِكَ العَدَدِ وَلا يُنْقَصُ مِنْهُ، وَكَذلِكَ أَفْعَالُهُمْ فِيمَا عَلِمَ مِنْهُمْ أَنْ يَفْعَلُوه لأنه يستحيلُ أنْ لاَ يَعلَمَ ما يَكُونُ منْ مخلوقاتِه قبلَ وجودِهِم إذْ ذاكَ جهلٌ والجهلُ في حقِّ القديمِ محالٌ، فَثَبَتَ سَبْقُ عِلْمِهِ في الأزلِ بما يكونُ منْ مخلوقاتِه.
وَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ أي أن مَنْ قُدِّر أنَّهُ منْ أهلِ الجنةِ قُدِّرَ له ما يُقَرِّبُهُ إليها منْ قولٍ وعملٍ وَوُفِّقَ لذلك، ومن قُدِّرَ أنه منْ أهلِ النارِ قُدِّرَ له خِلافُ ذلك فأَتَى بأعمالِ أهلِ النارِ وأصرَّ عليها وَالأَعْمَالُ بِالْخَواتِيمِ أيْ أنَّ الجَزاءَ يكونُ على ما يُخْتَمُ به للعبدِ منَ العملِ، وَالسَّعيدُ مَنْ سَعِدَ بِقَضَاءِ اللهِ تَعَالى لأن من خُتِمَ له بعملِ أهلِ السَّعادةِ فهو سعيدٌ، وهو مَنْ خَلَقَ اللهُ تبارك وتعالى فيه الإيمانَ والطَّاعةَ فَجَرَى ذلك على يَدِهِ وماتَ عليه وَالشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ بِقَضَاءِ اللهِ تَعَالى أي مَنْ خُتِمَ له بعملِ أهلِ الشَّقاوةِ فهو شقيٌّ، وهو مَنْ خَلَقَ اللهُ تبارك وتعالى فيه الشَّرَّ فأجراهُ على يدِه وماتَ عليهِ. وَأَصلُ القَدَرِ سِرُّ اللهِ تَعَالى في خَلْقِهِ أيْ أنَّ ذلك مَستورٌ عنِ العبادِ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى ذَلِكَ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ فلذلك نُهِيْنَا عنِ الخوضِ فيه، وإنَّمَا الأمرُ الذي ينبغي في أمرِ القَدَرِ معرفةُ معناه وتفسيرِه، وَالتَّعَمُّقُ وَالنَّظَرُ في ذلِكَ أي في طلب الوقوف على الحكمة التي كتمها الله عن الخلق ذَرِيعَةُ الخِذْلانِ وَسُلَّمُ الحِرْمَانِ أي أن من يَتَتَبَّعُ ذلك فهو علامة أنه مَخْذُولٌ أيْ محرومٌ وَدَرَجَةُ الطُّغْيَانِ أي يؤدي للطغيان فَالحَذَرَ كُلَّ الحَذَرِ مِنْ ذلِكَ نَظَرًا وَفِكْرًا وَوَسْوَسَةً أي فادْفَعُوا عنْ أنفسِكُمْ مُحَاوَلةَ الاطِّلاَعِ على طلب ما حجب عن العباد حتى مِنْ طريقِ الوَسْوَسَةِ، ولْيَشْغَلِ الإنسانُ قلبَه بما يَحْجُزُهُ عنْ ذلك فَإنَّ اللهَ تَعَالى طَوَى عِلْمَ القَدَرِ عَنْ أَنَامِهِ أي خلقه وَنَهَاهُمْ عَنْ مَرَامِهِ أيْ عنْ طَلَبِهِ لأنه أمر لا سبيل إلى معرفته كَمَا قَالَ تَعَالى في كِتَابِهِ: ﴿لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ (23) [سورة الأنبياء]، فَمَنْ سَأَلَ لِمَ فَعَلَ فَقَدْ رَدَّ حُكْمَ الكِتَابِ وَمَنْ رَدَّ حُكْمَ الكِتَابِ أي ردَّ النصوص كانَ منَ الكافرينَ، فَهذِهِ جُمْلَةُ مَا يَحتَاجُ إلَيهِ مَن هُوَ مُنوَّرٌ قَلبُهُ منْ أَوْلياءِ اللهِ تَعَالى أي أن هذه إشارةٌ إلى جميعِ ما تَقَدَّمَ مِمَّا يجبُ اعتقادُهُ والعملُ به وإلى أنَّ مَنْ حَوَى ذلك وعَمِلَ بهِ فقدْ نَوَّرَ اللهُ قلبَهُ وانتظم في سلك الأولياء قال الله تعالى: ﴿أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نورٍ من ربه﴾ وَهِيَ دَرَجَةُ الرّاسِخِينَ في العِلْمِ أيِ المتمكِّنِينَ في العِلْمِ، وهمُ الذين ثَبَتُوا فيهِ وتمكَّنُوا لأنَّ العِلمَ عِلْمانِ: عِلمٌ في الخَلْقِ مَوْجُودٌ وهو ما جَعلَ اللهُ سبيلاً للعبادِ إليهِ كعلم العقائدِ والأحكامِ وعِلْمُ ما يُنتفَعُ بهِ في المعيشةِ، وَعِلْمٌ في الخَلْقِ مَفْقُودٌ وهو ما استأثرَ اللهُ بهِ ولَمْ يَجعلْ للخلقِ سبيلاً إليه، كعِلْمِ وَجْبَةِ القِيامةِ فذلكَ هو العِلْمُ المفقودُ للعِبادِ، فإنكارُ العِلْمِ الموجودِ كإنكارِ السُّوفِسْطَائِيةِ وُجُودَ الأشياءِ، فهم ينكرون حقائق الأشياء ويقولون: "نتخيّل فقط"، فما نعتقده من حقائق الأشياء ونسميه بالأسماء من الإنسان والفرس والسماء والأرض وغيرِ ذلك ليس تخيلاً بل هي حقيقة موجودةكُفرٌ ، وكذلك ادِّعاءُ العِلْمِ المفقودِ كُفرٌ كمن يدَّعي من الخلق الإحاطة بكل شىء علمًا أو كمَنِ ادَّعَى أَنَّهُ يَعرِفُ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ على التّحديدِ. ولا يَثبُتُ الإِيمانُ إلا بقَبولِ العِلْمِ الموجودِ وتَرْكِ طَلَبِ العِلْمِ المفقودِ.
وَنُؤْمِنُ وجوبًا بِاللَّوحِ وهو عِبارةٌ عنْ جِرْمٍ عُلْوِيّ لَيسَ كَأَلْوَاحِنَا والقَلَمِ وهو جِرْمٌ عُلْوِيٌّ لَيسَ كَأَقْلاَمِنَا خُلِقَ قَبْلَ اللَّوْحِ وَ كذلك نؤمن بِجَمِيعِ مَا فِيهِ أي ما في اللوح قَدْ رُقِمَ أي كُتب لأن الله أخبر بذلك قال تعالى: ﴿وَكُلَّ شَىءٍ﴾ من الأمور الجليلة والأمور الحقيرة ﴿أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِين﴾ مكتوبة في اللوح المحفوظ. وعِلْمُ اللهِ غيْرُ مُتناهٍ، أمَّا المكتوبُ في اللَّوحِ المحفوظِ شىءٌ مُتناهٍ، واللَّوحُ ليسَ فيهِ تفاصيلُ ما يقعُ في الآخرةِ لأنَّ هذا شىءٌ لا نهايةَ لهُ. فَلَوِ اجتَمَعَ الخَلْقُ كُلُّهُمْ عَلَى شَىءٍ كَتَبَهُ اللهُ تَعَالى فِيهِ أَنَّهُ كَائِنٌ لِيَجْعَلُوهُ غَيرَ كَائِنٍ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيهِ، ولوِ اجْتَمَعُوا كُلُّهُمْ عَلى شَىءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللهُ تَعَالى فِيهِ لِيَجْعَلُوهُ كَائِنًا لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ أي أن علم الله ومشيئته أزليان كسائر صفاته وقد تقدم ذكر ذلك، والألفاظ التي ذكرها المؤلف هنا وردت فِيمَا صحَّ عنْ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في بعضِ أحاديثِهِ، جَفَّ القَلَمُ بمَا هُو كَائِنٌ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ أيْ أنَّ القَلَمَ قدْ فَرَغَ مِنْ كِتابةِ ذلكَ.
وَمَا أَخْطَأَ العبدَ لمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ أي وما سَبقَ في علمِ اللهِ أنه لا يُصيبُ العبدَ فمحالٌ أنْ يُصيبَه وَمَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ أي وما سَبقَ في علمِ اللهِ أنه يُصيبُ العبدَ فمحالٌ أنْ يُخطئَهُ، لأنَّ عِلْمَ اللهِ سَبقَ بذلكَ ولا يَتغيرُ عِلْمُ اللهِ، لأنَّ تغيرَ العِلْمِ جَهْلٌ والجهلُ مستحيلٌ على اللهِ. وَكذلك يجبُ عَلَى العَبْدِ أَنْ يَعْلَمَ أنَّ اللهَ قَدْ سَبَقَ عِلمُهُ في كُلِّ كَائِنٍ مِنْ خَلْقِهِ فَقَدَّرَ ذلِكَ تَقْدِيرًا مُحكَمًا مُبرَمًا لَيْسَ فِيهِ نَاقِضٌ وَلا مُعَقِّبٌ وَلا مُزِيلٌ ولا مُغَيِّرٌ وَلا مُحَوِّلٌ ولا نَاقِصٌ وَلا زَائِدٌ مِنْ خَلْقِهِ في سَمَاواتِه وَأرْضِهِ أي أنه لا يحصل شىء إلا بعلم الله الأزلي، وهذا تصريح بإثبات وحدانية وربوبية الله تعالى وأزلية علمه ومشيئته وبإثبات القضاء والقدر بما هو كائن من خلقه وبتقدير كل شىء على ما تقتضيه حكمته بما خلقه من حسنٍ وقبيحٍ وخيرٍ وشرٍ وطاعة ومعصية وغنى وفقر وَذلِكَ أي جميع ما سبق من العقائد المذكورة في القضاء والقدر وغيرهما مِنْ عَقْدِ أي اعتقاد الإِيمانِ وأُصُولِ المَعرِفَةِ والاعْتِرَافِ بِتَوْحِيدِ اللهِ تَعَالى وَرُبُوبِيَّتِهِ كَمَا قَالَ تَعَالى في كِتَابِهِ: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَىءٍ فقدّره تقديرًا﴾ (2) [سورة الفرقان]، وقالَ تعالى: ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَرًا مَقْدُورًا﴾ (38) [سورة الأحزاب] ومعناه لا يتم التوحيد والاعتراف بالربوبية إلا بالاعتراف بصفاته عز وجل، والمرادُ بالأمرِ هنا ليسَ الأمرَ التكليفيَّ كالصلاةِ والصيامِ، إنما ما شاءَ اللهُ تعالى حصولَه ووقوعَه في الوجودِ منْ أعيانِ المخلوقاتِ أوْ منْ صفاتِهِم وحركاتِهِم وسكناتِهِم.
فَوَيلٌ لِمَنْ صَارَ للهِ تَعَالَى في القَدَرِ خَصِيمًا أي من ينكر القدر فقد نازع الله فيما أثبته فصار خصيمًا له فيستحق الويل، ووَيل لمن أَحضَرَ للنَّظَرِ فِيهِ قَلْبًا سَقِيمًا أي لارتيابه فيما ثبت بالأدلة القطعية لمرض في قلبه، ولطلبه الوقوف على مضمون سر كتمه الله عن خلقه، لَقَدِ التَمَسَ بِوَهْمِهِ في فَحْصِ الغَيبِ سِرًّا كَتِيمًا وَعَادَ بِمَا قَالَ فيهِ أَفَّاكًا أَثِيمًا وهذا تصريحٌ بذمِّ مَنْ أنكرَ القَدَرَ ومن أنكره فقد كفر لأن منكره أفاك أثيم والأفاك هو الكذاب والأثيم هو الفاجر كثير الإثم.

عقيدة المسلم

عقيدة المسلم